لااحب الغنــــاء بصوت عال ..

[صمت الوداااع]

لا احب الغناء بصوت عال


قصة قصيرة



منتصباً على الرصيف تعلو قامتي إشارة المرور التي تشتت ضوءها في أشعة الشمس الهابطة من نهار سحيق يشبه ضجري الآن، وقد فاحت رائحة العصر بما تدق به العظام من وهن.

تتخطف السيارات أمامي بعد انتظارها دورها من هذه الأعمدة الموزعة على فجوات الأرصفة. أصلح غترتي وقد رفعت العقال قليلاً، أضغطه مرة أخرى على مقدمة الغترة، ثم ألوح بيدي للسيارات المتسابقة على المضي في انفلات الشارع الذي يغيب في الأفق.

يبدو أنني سأتأخر عن المحاضرة _ هذا إذا حضرتها _ فالساعة الآن "الثالثة والنصف" والطريق لن تقطبه أقل من ثلث ساعة، هذا إذا كان السائق على عجلة من أمره، أما إذا كان أحد المسنين، فسيجلس الدكتور في مكانه في تمام "الرابعة" والسائق مازال يعارك "التعشيقة الثالثة".

تمر الآن مجموعة من السيارات التي تبدو كتلة واحدة تمضي تاركة لي رائحة عوادمها الكريهة، بدأ الشارع يهدأ والسيارات التي تقف على أطراف الإشارات تقل، وفي الناحية المقابلة تقبع سيارة ذات شريط أزرق يجلس خلف زجاجها المنعكس عليه أشعة الشمس رجلان، يضع أحدهما قبعته السوداء على ركبته المرتفعة إلى موازاة صدره، والآخر يدرج أصابعه تحت قبعته ليحك رأسه. كنت في طفولتي أحس بالأمان في هيئاتهم الجادة، كان المدرس يقول لنا أنهم يحبوننا ويسهرون على راحتنا و… و… لكن كل هذا تهاوى أمام تلك الليلة، والتي مازال أثرها ينبض على وجهي وفمي…

مرت سيارة مسرعة أمامي ساحبة بصري ورائها، كانت قد قطعت الإشارة البلهاء، والتي لا تبدو بأحسن حال من ذلك المتكوم في السيارة، والذي انهمك في حك رأسه أكثر من السابق..

أنقل دفتر المحاضرات إلى اليد اليسرى، أمد بصري إلى آخر الشارع لعله يحمل سيارة باتجاهي، تفاءلت حين شاهدت سيارة صفراء قادمة تبدو خاوية إلا من لون داكن يظهر خلف مقودها، فكل سيارات الأجرة التي مرت كانت معبأة بالركاب بمختلف أشكالهم وألوانهم. يقف الآن عند الإشارة في حين كان الشارع فارغاً تماماً. بدأت تتحرك باتجاهي، لم أكن مضطراً للتلويح بيدي، فقد أخذ يحاذي الرصيف الذي تسقط عليه قامتي، أنظر إلى الساعة في يدي قبل أن أفتح الباب "الرابعة إلا ربع" فقد بات حتماً عليّ أن أتأخر، لكني سأفكر بعذر يقيني شر ذلك الدكتور، والذي قد يطردني شر طردة من القاعة بكامل هيئتي المرتبة من غترة، وعقال، وثوب نظيف، والتي أحس أن الدكتور ذي البنطلون يطردها هي.

أخذ الطريق المحشور بين الأرصفة يدرج تحت السيارة ببطيء.. وجه داكن مهشم بفعل السنين، يدان تتشبثان بالمقود بقوة تفوق تكوين جسده المتهالك، الشيء الوحيد الذي قاله هو "وين رايح" بعدها أقفل كل شئ يربطني به. أخرج محفظتي من جيبي وأتفحصها، لم يعرني السائق اهتماماً، كان ينظر إلى الأمام كأنه خلق مع هذه السيارة، وكأن جسده ضمر بداخلها. ثلاثون ريالاً هي كل ما حوت المحفظة، وسيأخذ هذا السائق نصفها الآن، فالمكافأة الجامعية التي سمعنا عنها قبل ثلاثة أشهر لم تصل إلى الآن.. لم يكن من عادتي الشتم لكني استحضرت كلام صديقي الذي صام ثلاثة أيام غصباً عنه. منت استلذ وأنا أعيدها في تفكيري، وكأنها تخرج من أعماقي. تفاقم الجوع بداخلي، أخذت أضغط أسناني على بعضها البعض لأرخيها بسرعة، وقد خط على فكي ألم مبرح كألم تلك الليلة التي كانت ساخنة كنهار أحمق يشوي أرجاء روحي، كانت تلك السيارة ذات الشريط الأزرق واقفة كعادتها حين مررت من عندها، وكان صوتي مرتفعاً بالغناء؛ فالسعادة التي لا أعرفها هنا إلا قليلاً كانت تصطخب فيّ، فقد حصلت في صباح ذلك اليوم على "حوالة" من أهلي الهادئين في أقاصي الجنوب، كنت أغني بصوت واضح، فجأة أحسست بقبضة قوية تطوق معصمي، كان في نفس الهيئة التي كنت أبجلها، أخذ يشدني إلى السيارة التي فتح بابها الخلفي، يقف عنده صديقه، والذي لم تكن ملامحه هو الآخر مطمئنة..

لم أعد إلا في صباح اليوم التالي، وآثار دم على شفتي، فقد كانت ليلة قاسية، قاسية جداً..

أعيد المحفظة إلى جيبي في الوقت الذي أخذت فيه السيارة منعطفاً خفيفاً إلى اليسار.

حين وصلت كان بعض الطلبة في القاعة، والبعض الآخر في ممرات الجامعة، فالدكتور لم يأت بعد، وقد لا يأتي اليوم، ولقد جلست علي الكرسي، ولم أتحرك بعدها، فأنا لا أحب الخروج في الممرات، ولا أحب الغناء بصوت عال…