صحيفة الدستور المصريه الأربعاء 5 شعبان 1429 - 6 أغسطس 2008
حين غابت دولة القانون - فهمي هويدي
لم أكن أعلم أن البلطجة والفتونة تطورت وتحولت إلى عمل منظم له مكاتبه ومؤسساته .. كنت أعلم أن هناك مقاولين لتوريد الأنفار لجمع القطن والاشتغال فى بعض أعمال المعمار التى لاتتطلب خبرة ولا فناً , كنت أعلم أيضا أن هناك متعهدين لتوفير المجموعات المطلوبه للأعمال السينمائيه أو الحلقات التلفزيونيه وهؤلاء هم الأشخاص الذين يحتشدون فى خلفية أى مشهد , ويتحركون ويصفقون أو يصيحون حسب الطلب وقرأت ذات مرة أن شركة تأسست فى ألمانيا لتوفير التجمعات المطلوبه لأى مظاهرة ضد الحرب أو ضد الأجانب أو ضد الولايات المتحده والعولمة وهؤلاء أيضا تجهز لهم اللافتات والهتافات وتوفر لهم الثياب اللازمة لاحكام المشهد ,
لكن التطور ذهب فى مصر إلى أبعد من ذلك وهو ما اكتشفته فى احدى الجلسات التى جمعتنى مع بعض المطلعين على التحولات الحاصله فى البلد قال أحدهم انه اشترك فى الحملة الانتخابيه لوزيره وفوجىء ذات مرة بشخص طويل القامة ومفتول العضلات قدم إليه نفسه قدم إليه باعتباره صاحب مكتب (خدمات) ولما سأله صاحبنا عن نوع الخدمات التى يقدمها , كان رده أن شركته تقوم بأى شىء يطلب منها ويحتاج إلى (جدعان) لانجازها , ثم أضاف أنه يعتقد أن حملة الوزير الانتخابيه تحتاج إلى بعض (الخدمات) التى يقوم بها مكتبه , سواء فى حماية المرشح أو ردع منافسيه وترهيبهم , وظل المتحدث يلف ويدور حول المعنى الذى أثار انتباه صاحبنا فسأله متخابثا عما إذا كانت الأعمال التى يقومون بها تتم بمقابل مادى أم على سبيل الجدعنه أيضاً , فابتسم وقال :(كله بحسابه).
وشجعته الإجابة على أن يلقى عليه مزيدا من الاسئله وعلى رأسها سؤال عن طبيعة العاملين فى مكتب الخدمات , وعما إذا كانوا منبلطجية الحى وأصحاب السوابق الجنائيه فيه , فضحك الرجل وقال له(عليك نور).
أثارت العمليه فضول صاحبنا فطلب للرجل فنجان فهوة ومضى يستفسرمنه عن خلفية مشروعه ومما قاله ان فكرة مكاتب الخدمات حديثه , وأنه يوجد فى الحى القاهرى الكبير الذى يقطنون فيه ثلاثة مكاتب للخدمات , عملها الاساسي يقوم على التعاقد مع أى جهه لقمع أو قهر طرف أخر.
أضاف ان اجراء الانتخابات يشكل موسما مكاتب هذا النوع من الخدمات . فالمرشح بحاجة لمن يحميه ويلاحقه بالهتاف الزاعق أينما ذهب , وقد يحتاج إلى من يفسد المهرجانات التى يقيمها منافسوة كما قد يضطر الى الاشتباك مع أنصار المنافسين واظهار العين الحمراء لهم , فى الوقت ذاته فإن هذه المكاتب لاتتردد فى تقديم خدماتها للشرطة التى تستعين بها فى التعامل مع المظاهرات وفى انجاز بعض المهام التى تكلف بها إثناء الانتخابات لملاحقة المعارضين وقمعهم .
هذه الانشطة تتطلب وجود جهات بمواصفات خاصة قادرة على تلبية طلبات السوق لذلك فان الشرط الأول والوحيد المطلوب فيمن يلتحق بالعمل فى المكتب هو أن يكون مغامرا وقوى البنية ومستعدا لأن يفعل أى شيىء من أجل المال.
قال اخر من الجالسين إن الضرورة أوصلته إلى مكاتب استشاريه أقامها بعض الناقدين السابقين من جهاز الشرطة بوجه أخص , مهمتها تحصيل الديون والاستحقاقات التى يعجز أصحابها عن استردادها , بالتفاهم أو من خلال القضاء الذى لم تعد أحكامه بخصوص المديونيات أو الشيكات بلا رصيد تنفذ.
وهذه المكاتب تتعهد باسترداد الحق فى توقيت معين مقابل نسبه متفق عليها من المبلغ الأصلى (10% فى الأغلب) وما عليك فى هذه الحالة إلا أن تحدد اسم المدين وعنوانه أو اسم بلدته, وبعد ذلك تذهب الى بيتك , وسوف تقوم تلك المكاتب من خلال شبكة عملائها واساليبها الخاصة بالضغط على المدين وانتزاع حقك منه , وتسليمه اليه نقدا بعد خصم نسبتهم بطبيعة الحال.
أخطر ما فى مثل هذه الظواهر أنها تعنى أن القانون لم يعد كافيا لاقرار الحقوق وحمايتها , وأن البطالة فتحت الباب للبلطجة , التى أصبحت أجهزة الدوله تستخدمها فى بعض الحالات , ثم اننى أخشى فى أجواء تفريغ المؤسسات الشرعيه من وظائفها أن تصبح هذه الكيانات الناشئه هى الدليل الباقى فى اصبات وجود دولة المؤسسات.