31-12-2004, 02:47 PM
|
#49
|
(حلا نشِـط )
|
تــــــــابع
استدرت إلى الوراء ... فإذا بي أرى رغد تطل من فتحة الباب !
صمدت في مكاني مندهشا !
رغد أخذت تنظر إلى و إلى الحقيبة التي في يدي ... ثم تهز رأسها اعتراضا ... ثم تقبل إلي مسرعة ...
" وليد ... لا ... لا ترحل أرجوك "
حرت و لم يسعفني لساني بكلمة تناسب مقتضى الحال ... سألتها :
" لم ... أنت مستيقظة الآن ؟؟ "
رغد حدقت بي مدة ، و بدأت الدموع تنحدر من محجريها ...
" أوه ... كلا أرجوك ! "
قلت ذلك بضيق ، فأنا قد خرجت في هذا الوقت خلسة هروبا من هذا المنظر ...
ألا أن رغد بدأت تبكي بحدة ...
" لا تذهب وليد أرجوك ... أرجوك ... ابق معنا "
قلت :
" لا أستطيع ذلك ... أعني ... لدي عمل يجب أن أعود إليه "
و في الحقيقة ، لدي واقع مر يقف أمامي ... علي أن أهرب منه ...
رغد تهز رأسها اعتراضا و استنكارا ... ثم تقول :
" خذني معك "
ذهلت لهذه الجملة المجلجلة ! و اتسعت حدقتا عيني دهشة ...
رغد قالت :
" أريد أن أعود إلى بيتنا "
" رغد !! "
دخلت رغد في نوبة بكاء متواصل ، خشيت أن يخترق صوتها الجدران فيصل إلى البقية و يوقظهم ... و نبدأ دوامة جديدة من الدموع ...
قلت :
" رغد ... أرجوك كفى ... "
رغد قالت بانفعال ، و صوتها أقرب للنوح منه إلى الكلام :
" أنا ... وفيت بوعدي ... و لم أخن اتفاقنا ... لكنك كذبت علي ... و لم تعد ... و الآن بعد أن عدت ... تبادر بالرحيل ... و تنعتني بالخائنة ؟ إنك أنت الخائن يا وليد ... تتركني و ترحل من جديد "
كالسم ... دخلت هذه الكلمات إلى قلبي فقتلته ... و زلزلتني أيما زلزلة ...
قلت مندهشا غير مستوعب لما التقطت أذناي من النبأ الصاعق :
" لم ... لم ... تخبري أحدا ... ؟؟ "
رغد هزت رأسها نفيا ...
قلت بذهول :
" و لا ... حتى ... سامر ؟؟ "
و استمرت تهز رأسها نفيا و بألم ...
فشعرت بالدنيا هي الأخرى تهتز و ترتجف من هول المفاجأة ... تحت قدمي ّ
قالت :
" كنت أنتظر أن تعود ... لكنهم أخبروني أنك لن تعود ... و لا تريد أن تعود ... و كلما اتصلت بهاتفك ... وجدته مقفلا ... و لم تتصل لتسأل عني و لا مرة طوال هذه السنين ... لماذا يا وليد ؟؟ "
لحظتها تملكتني رغبة مجنونة بأن أضحك ... أو ... أو حتى أتقيأ من الصدمة !
لكن ...
ما الجدوى الآن ...
كبتّ رغبتي في صدري و معدتي ، و رفعت نظري إلى السماء ... أُشهد ملائكة الليل على حال ٍ ليس لها مثيل ...
و حسبي الله و نعم الوكيل ...
سمعت صوت تغريد عصفور شق سكون الجو ... و نبهني للوقت الذي يمضي ...
و الوقت الذي قد مضى ...
و الوقت القادم المجهول ...
كم سخرت الدنيا مني ... فهل من مزيد ؟؟؟
" صغيرتي ... أنا ذاهب ... "
رغد ظلت تنظر إلي و تبكي بغزارة ... و لم يكن باستطاعتي أن أمسح دموعها ...
استدرت موليا إياها ظهري ... لكن صورتها بقيت أمام عيني مطبوعة في مخيلتي ...
سرت خطى مبتعدا عنها ... نحو البوابة الرئيسية للفناء ، و فتحتها ...
قلت :
" اقفلي الباب من بعدي .. "
دون أن التفت نحوها ... فهو دوري لأذرف الدموع ... التي لا أريد لأحد أن يراها و يسبر غورها ...
" وليــــــــــد "
و كعصفور يطير بحرية ... بلا قيود و لا حدود ... و لا اعتبار لأي شيء ... أقبلت نحوي ...
استدرت ... و تلقيت سهما اخترق صدري و ثقب قلبي ... و بعثر دمائي و مشاعري في لحظة انطلقت فيها روحي تحلق مع الطيور المرفرفة بأجنحتها ... احتفالا بمولد يوم جديد ...
منذ الساعة التي أجريت فيها المقابلة الشخصية ، و طرح علي السؤال عن خبراتي و مؤهلاتي و عملي في السابق ، أدركت أن الأمر لن يكون يسيرا ...
حصلت على الوظيفة رغم ذلك بتوصية حادة من صديقي سيف ، الذي ما فتئ يشجعني و يحثني على السير قدما نحو الأمام
و خلال الأشهر التالية ، واجهت الكثير من المصاعب ... مع الآخرين .
بطريقة ما انتشر نبأ كوني خريج سجون بين الموظفين ، و تعرضت للسخرية و المعاملة القاسية من قبل أكثرهم
كنت أعود كل يوم إلى المنزل مثقلا بالهموم ، و عازما على عدم العودة للشركة مجددا ، ألا أن لقاءا قصيرا أو مكالمة عابرة مع صديقي سيف تنسيني آلامي و تزيح عني تلك الهموم ...
أصبح صديقي سيف هو باختصار الدنيا التي أعيشها ...
توالت الأشهر و أنا على هذه الحال ، و كنت اتصل بأهلي مرتين أو ثلاث من كل شهر ... اطمئن على أحوالهم و أحيط علما بآخر أخبارهم
علمت أن رغد التحقت بكلية الفنون و أن دانه قد حددت موعدا لزفافها بعد بضعة أشهر .. و أن والديّ يعتزمان تأدية الحج هذا العام ...
أما سامر ، فقليلا جدا ما كنت أتحدث إليه ، حين أتصل و يكون صدفة متواجدا في المنزل ، إذ انه كان يعمل في مدينة أخرى ...
في الواقع ، أنا من كان يتعمد الاتصال في أيام وسط الأسبوع أغلب الأوقات .
لقد تمكنت بعد جهد طويل ، من طرد الماضي بعيدا عن مخيلتي ، ألا أنني لازلت احتفظ بصورة رغد الممزقة موضوعة على منضدتي قرب سريري ـ إلى جانب ساعتي القديمة ـ ألمها ثم أبعثرها كل ليلة !
حالتي الاقتصادية تحسنت بعض الشيء ، و اقتنيت هاتفا محمولا مؤخرا ، ألا أني تركت هاتف المنزل مقطوعا عن الخدمة .
أما أوضاع البلد فساءت عما كانت عليه ... و أكلت الحرب مدنا جديدة ...
و أصبح محظورا علينا العبور من بعض المناطق أو دخول بعض المدن ...
في مرات ليست بالقليلة نتبادل أنا و سيف الزيارة ، و نخرج سوية في نزهات قصيرة أو مشاوير طويلة ، هنا أو هناك ...
في إحدى المرات ، كنت مع صديقي سيف في مشوار عمل ، و كنا نتأمل مشاهد الدمار من حولنا ...
الكثير الكثير من المباني المحطمة ... و الشوارع الخربة ...
مررنا في طريقنا بأحد المصانع ، و لم يكن من بين المباني التي لمستها يد الحرب ... فتذكرت مصنع والدي الذي تدمر ...
قلت :
" سبحان الله ! نجا هذا من بين كل هذه المباني المدمرة ! ألا يزال الناس يعملون فيه ؟؟ "
أجاب سيف :
" نعم ! إنه أهم مصنع في المنطقة يا وليد ! ألا تعرفه ؟ "
" كلا ! لا أذكر أنني رأيته مسبقا ! "
ابتسم سيف و قال :
" إنه مصنع عاطف ... والد عمّار ... يرحمهما الله ! "
دهشت ! فهي المرة الأولى التي أرى فيها هذا المبنى ... !
أخذت أتأمله بشرود ... ثم ، انتبهت لكلمة علقت في أذني ...
" ماذا ؟ رحمهما الله ؟؟ "
سألت سيف باستغراب ، معتقدا بأنه قد أخطأ في الكلام ... قال سيف :
" نعم ... فعاطف قد توفي في العام الماضي ... رحمه الله "
~~~~~~~~~~~~
|
|
|
|