منتديات حــلا

منتديات حــلا (http://vb.7laa.com/index.php)
-   مجلس حلا للقصص والروايات (http://vb.7laa.com/forumdisplay.php?f=21)
-   -   في ذاك الركن البعيد...قصّة ثمن الوفاء... (http://vb.7laa.com/showthread.php?t=12315)

أميرة الياسمين 03-09-2005 10:33 PM

في ذاك الركن البعيد...قصّة ثمن الوفاء...
 
رقصت القنابل فوق الربى رقص الذئاب في الليالي المقمرة. وقهقه الرصاص طائشاً في الدروب والأزقة، وانطلقت تهطل من السماء تصبّ جام لعناتها هنا وهناك. تنفثها فوق البيوت الوادعة لتستحيل ركاماً، وعند الأطفال النيامى ليستحيلوا جثثاً مشوية ودموعاً في مآقي الثكالى ونواحاً عند الأرامل، ويهرب فرح الربيع مولياً الأدبار ويستحيل الموت سيّداً المكان عند تلك القرى.
في مخيّم غير بعيد التجأ المستضعفين، يستنجدون بأمان مزعوم يطلبون المأوى وأنّى ذلك في حرب مسعورة، إذ ليس من مكان آمن وسط هذا الجو المحموم ومجرّد أن تتخيّل أنك دافئ هنا، بعيد عن شظايا الموت، تكون حتماً واهم.
بين زوايا مشفى ذلك المخيّم، انتحت أرملة عجوز، ركعت، جمّعت عظامها، قلقة، خائفة، ترفع كفّها بالدعاء، يلهج لسانها بالذكر، وتمسح صورةً في إطار قلادة ذهبية ثقيلة ثمينة، لشابٍ مفقودٍ هو ابنها.
و في مكان غير بعيد عن مخيم اللاجئين،عند منزل قرويّ، كان هناك عائلة تحاول الفوز والنجاة بأرواحها بعيداً من غدر الرصاص والشظايا، كان الشاب الصغير السن يساعد والديه العجوزين وقد اتكأت أمه على كتفه في حين استند والده على عكازه يتبعه، يمضي بهما صوب سيارته، وباءت محاولته بالفشل، وانهمر الرصاص أشدّ من ذي قبل،وزغردت القنابل ونفثت بشعوذتها،«استر يا رب...»،و لم تُرحم الأم العجوز ولا جسد ابنها الذي كان يحميها به خوفاً وبرّاً من لعنة الشظايا الحمومة، فسقطا مضرّجين بالدماء.
سقط العجوز مغشياً؛ ثم استيقظ في المخيّم،واتجه يغادره، ليسأل عن أحبّته في المشفى فأجيب بأنهم أصيبوا بجراح خطرة مميتة.
في الركن البعيد في المشفى كانت شابّة حبلى وزوجها ينتظران ولادة وليدهما الأوّل بفارغ الصبر.
وفي ذاك الركن البعيد تقوقع الأربعة، يكسرون الصمت بالحديث الرتيب، يسردون قصصهم، كلّ يقص حكايته عن وفاء أحبّته، يرفعون الرجاء للرحمن: «لطفك بنا يا ربّنا رحمتك وعفوك عنا...».كلّ مترقّب، كلّ حذر.
سردت الأرملة أولى قصص السهرة: هي تحلم برؤية ابنها الشاب، فُقِدَ قبيل بدء الحرب، ولم تعلم بعدها عنه خبراً، وتابع العجوز السرد يحكي عمّا دفعه ابنه من ثمن يفي به حقّ أمه ويرجو لهما الشفاء ،وأنهت الحوار الشابة التي ستغدو بُعيد قليل أماً: هي تترقب ولادة أول أولادها كما أنها تحلم بأن يصبح ابناً باراً بها حتى تشيخ.
ساعات قليلات ودوّت صرختها و ولولاتها ودعواتها، توقظ النساء، تهرع صوبها الممرضات، تعلن بذلك بفرح وقلق وترقّب بدء مراسم الولادة؛ ليبزغ فجر برٍّ جديد.
في الغرفة الأخرى غير بعيد، هرول العجوز وقد استدعي على عجل: زوجه وابنه في النزاع الأخير. أما الأرملة فقد شعرت بوخزة خفيفة بين ضلوعها، لم تكترث، حجلت ببطء صوب السيدة الشابة لتساعدها في مخاضها، وكان عسيراً صعباً رهيباً، فما لبث أن اشتدّ الألم بين الضلوع، فتنحت جانباً لتلملم أنفاسها وأفسحت المجال تترك لبعض النساء إكمال المهمة.
في مشفى المخيّم الكئيب بزغ فجر الوفاء الجديد مُعْلناً بصرخات المولود الجديد، غير بعيد منه غيّب الموت شاب وفى لوالديه ودفع الروح ثمناً لبرّه ثم على إثره فارقت الأم الحياة، ورحلت مع ابنها يطيران عصفوران أخضران للجنان .
عاد العجوز إلى المخيّم حزيناً أرملاً، إلى الركن حيث كان الرفاق يتلاقوا، يبحث عن أصدقاء الوفاء والحرب، فإذ بالأب الجديد يستقبله بولادة ابنه البكر،و يقدّمه له،فأخذه يضمه، ويبكي يخبره بغصّة فقده زوجته وابنه، فما كان من صديقه إلا أن احتضنه، يربّت على كتف العجوز بودّ، يخفف عنه ، مسميّاً المولود الجديد على اسم ابنه الشهيد تيمناً بوفائه.
في الركن انزوت الأرملة، ابتسمت ابتسامتها الأخيرة، وسلّمت للباري روحها الطهور، ورحلت تتشبّث أصابعُ بيدها بالقلادة، وقد أوصت بها رفاقها أمانة لابنها المفقود، الذي لم تتسنى لها رؤيته والاطمئنان عن أخباره.
يوم الجنازة كان كئيبا صعباً ثقيلاً عاصفاً شتوياً، ناحت النساء، تفشى عويلهن كالداء بين حناجرهن، ورفعت النعوش الثلاثة للمثوى الأخير،يودَّعون بالبكاء والزغاريد.
من البعيد شاب أصفر الوجه، عينين غائرين، شعر أشعث، يزاحم المشيعين يهرع صوب الضريح،يقترب، يسأل كمجنون عن عجوز ذات قلادة، يبحث عمّن يعرفها،فيشيرون صوب الأرمل العجوز، وأبٌ شاب يجاوره ، وأمّ شابة تحمل بين ذراعيها رضيع، تهزّه برفق .
تقدّم الشاب بخطواتٍ متعثّرة من العجوز، يسأله عن إرثه من ذات القلادة، فيجيب مستغرباً:« هي القلادة وصورتك فيها...»،انتزعها الشاب من يده نزعاً غاضباً مقطّب الجبين عابساً، يحملق بها، وانصرف، دون أن يسأل حتى عن أمه شاتماً لاعناً متمتماً: «...تنفع ثمناً لديون القمار وسمومي التي أتعاطاها...»...
انفجرت الدماء المحتقنة في وجه الصديق العجوز غضباً،انفجر شاتماً لاعناً هذا العاق صارخاً جاهراً:" تباً لوفائك أيها العاق، ليته لو كان ثمناً من حياتك... ليته كان كثمن وفاء ابني الذي قدم روحه الطاهرة ثمناً ليبر بي و بأمه،أما أنت فأحمد الله الذي أمات أمك قبل أن تعلم حقيقتك، ارحل لتأخذك نيران الجحيم ، تباً لك، اللعنة عليك ألف لعنة، لتأخذك كلّ اللعنات إلى الجحيم".
كان الأب قد شدّ لصدره وليد فجر الوفاء الجديد بشدّة وقلق وغضب وخوف، يناظر أمه التي رسمت فوق وجهها التعب، هي الأخرى،ألف علامة استفهام وامتعاض ورجاء، في حين صعّر الشاب للعجوز وجهه، يهزّ كتفيه ساخراً هازئاً ويمضى لا مبالياً ينصرف بين الجموع ، يغادر دون أن يلتفت ولو للحظة مكترثاً لأمر ذاك الجثمان...

امير العشق 05-09-2005 09:12 AM

مشاركة: في ذاك الركن البعيد...قصّة ثمن الوفاء...
 
اميرة الياسمين
مشكورة على القصة المتميزة
التى اسعدتنى بقرائتها
تقبلى التحية و التقدير

أميرة الياسمين 09-10-2005 11:39 AM

مشاركة: في ذاك الركن البعيد...قصّة ثمن الوفاء...
 
مشكور على عبورك الطيب يا أمير حلا
وتقبل اعتذاري على تأخري الطويل بالرد
ودمتم سالمين

rock 10-10-2005 01:44 AM

مشاركة: في ذاك الركن البعيد...قصّة ثمن الوفاء...
 
اميرة الياسمين
مشكورة اختى على القصه الرائعه تمنياتى لكى بالتوفيق ودائما الى الامام دمتى بالف خير وسعاده
الروك

أميرة الياسمين 10-10-2005 10:56 PM

مشاركة: في ذاك الركن البعيد...قصّة ثمن الوفاء...
 
شكرا على عبورك الطيب
ودمت لمنتدانا سالم


الساعة الآن 04:23 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2010, Jelsoft Enterprises Ltd